الإمام الْبُخَارِيُّ
الإمام الْبُخَارِيُّ
194- 256هـ = 810 - 870 م
أمير المؤمنين بالحديث
الاسم و الولادة:
هو الإمام الحجّة العالم النّاقد المجتهد شيخ الإسلام قدوة الحفّاظ : أبو عبد الله مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ بَرْدِزْبَهْ الجُعْفِي البُخَارِي، ولد الإمام البخاري في بخارى بعد صلاة الجمعة 13 / شوال / 194هـ الموافق لـ 19 / 7 /810 م وربّي يتيماً.
أسرته ونشأته:
-
كان جدّه المغيرة مجوسيّاً فأسلم على يد أمير بخارى يمان الجُعْفِي مولاهم.
-
طلب والد البخاري العلم، وقال الْبُخَارِيُّ: سَمِعَ أَبِي مِنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ، وَرَأَى حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ ، وَصَافَحَ ابْنَ الْمُبَارَكِ بِكِلْتَا يَدَيْهِ .
-
كان والده من كبار التّجّار وخلّف بعد موته مالاً كثيراً ، وقد قال على فراش الموت : " لَا أَعْلَمُ مِنْ مَالِي دِرْهَماً مِنْ حَرَامٍ ، وَلَا دِرْهَماً مِنْ شُبْهَةٍ."
-
ذَهَبَتْ عَيْنَا مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ فِي صِغَرِهِ ، فَرَأَتْ وَالِدَتُهُ فِي الْمَنَامِ إِبْرَاهِيم الْخَلِيلَ عَلَيْهِ السَّلَامُ- ، فَقَالَ لَهَا : يَا هَذِهِ ، قَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَى ابْنِكِ بَصَرَهُ لِكَثْرَةِ بُكَائِكِ ، أَوْ كَثْرَةِ دُعَائِكِ -شَكَّ الْبَلْخِيُّ - فَأَصْبَحْنَا وَقَدْ رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِ بَصَرَهُ .
بدايته العلميّة:
-
قال مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ : قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : كَيْفَ كَانَ بَدْءُ أَمْرِكَ ؟ قَالَ : أُلْهِمْتُ حِفْظَ الْحَدِيثِ وَأَنَا فِي الْكُتَّابِ . فَقُلْتُ : كَمْ كَانَ سَنُّكَ؟ فَقَالَ : عَشْرَ سِنِينَ ، أَوْ أَقَلَّ ، ثُمَّ خَرَجْتُ مِنَ الْكُتَّابِ بَعْدَ الْعَشْرِ ، فَجَعَلْتُ أَخْتَلِفُ إِلَى الدَّاخِلِيِّ وَغَيْرِهِ ، فَقَالَ يَوْمًا فِيمَا كَانَ يَقْرَأُ لِلنَّاسِ : سُفْيَانُ ، عَنْ أَبِي الزُّبَيْرِ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، فَقُلْتُ لَهُ : إِنَّ أَبَا الزُّبَيْرِ لَمْ يَرْوِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ ، فَانْتَهَرَنِي، فَقُلْتُ لَهُ : ارْجِعْ إِلَى الْأَصْلِ ، فَدَخَلَ فَنَظَرَ فِيهِ ، ثُمَّ خَرَجَ، فَقَالَ لِي: كَيْفَ هُوَ يَا غُلَامُ ؟ قُلْتُ : هُوَ الزُّبَيْرُ بْنُ عَدِيٍّ ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ .
فَأَخَذَ الْقَلَمَ مِنِّي ، وَأَحْكَمَ كِتَابَهُ ، وَقَالَ : صَدَقْتَ .
فَقِيلَ لِلْبُخَارِيِّ : ابْنُ كَمْ كُنْتَ حِينَ رَدَدْتَ عَلَيْهِ ؟ قَالَ: ابْنُ إِحْدَى عَشْرَةَ سَنَةً فَلَمَّا طَعَنْتُ فِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً ، كُنْتُ قَدْ حَفِظْتُ كُتُبَ ابْنِ الْمُبَارَكِ وَوَكِيعٍ، وَعَرَفْتُ كَلَامَ هَؤُلَاءِ ، ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَ أُمِّي وَأَخِي أَحْمَدَ إِلَى مَكَّةَ ، فَلَمَّا حَجَجْتُ رَجَعَ أَخِي بِهَا ، وَتَخَلَّفْتُ فِي طَلَبِ الْحَدِيثِ . -
قال الإمام البخاري: فَلَمَّا طَعَنْتُ فِي ثَمَانِ عَشْرَةَ ، جَعَلْتُ أُصَنِّفُ قَضَايَا الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَأَقَاوِيلَهُمْ
رحلته في طلب العلم:
-
سَمِعَ ببُخَارَى قَبْلَ أَنْ يَرْتَحِلَ ثُمَّ سَمِعَ بِبَلْخٍ وَسَمِعَ بِمَرْوَ وَبِنَيْسَابُورَ وَبِالرَّيِّ وَبِبَغْدَادَ وَبِالْبَصْرَةِ وَبِالْكُوفَةِ وَبِمَكَّةَ وَبِالْمَدِينَةِ وَبِالشَّامِ ومصر ومن أُمَمٍ سِوَاهُمْ. وقد قدر بعضهم المسافة التي قطعها البخاريّ رحمه الله تعالى في طلب العلم من بخارى حتّى العودة إليها بما يقارب : 14000 كلم .
عدد شيوخ البخاري:
-
قال محمّد بن أبي حاتم: سمعتُ البخاري قبل موته بشهر يقول: " كتبت عن ألف وثمانين رجلًا، ليس فيهم إلّا صاحب حديث، كانوا يقولون: الإيمان قولٌ وعملٌ، يزيد وينقص."
تلاميذه:
رَوَى عَنْهُ خَلْقٌ كَثِيرٌ ، مِنْهُمْ : أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ ، وَأَبُو حَاتِمٍ ، وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ إِسْحَاقَ الْحَرْبِيُّ ، وَأَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي الدُّنْيَا، وَمُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفِرَبْرِيُّ رَاوِي " الصَّحِيحِ " الّذي قَالَ : سَمِعَ كِتَابَ " الصَّحِيحِ " لِمُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ تِسْعُونَ أَلْفَ رَجُلٍ ، فَمَا بَقِيَ أَحَدٌ يَرْوِيهِ غَيْرِي .
كتب الإمام البخاري:
ساهم الإمام البخاري رحمه الله في التأليف والكتابة ، وأوّل كتاب يتبادر إلى الذّهن هو كتابه العظيم " "الجامع المسند الصّحيح المختصر من أمور رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وسننه وأيامه" المعروف عند النّاس بكتاب: " صحيح البخاري "، وهو أول كتاب صُنّف في الحديث الصّحيح المجرّد ، وقد تلقت الأمّة " صحيح البخاري " بالقبول ، حتى عدّه العلماء أصحّ كتاب بعد كتاب الله تعالى . وللشّيخ تصانيف أخرى مثل:
-
" الأدب المفرد " ، والذي تناول فيها جملة من الآداب والأخلاق.
-
وبعض الأجزاء الحديثيّة مثل: " رفع اليدين في الصّلاة" و" القراءة خلف الإمام"
-
وفي علم التّاريخ له: " التّاريخ الكبير، والأوسط ،والصّغير "
-
وفي العقيدة ألّف رسالة أسماها: " خلق أفعال العباد "
-
وفي علم الرّجال : " الضعفاء "
سبب تأليف صحيح البخاري
-
قَالَ أَبُو عبد الله مُحَمَّد بن إِسْمَاعِيل البُخَارِيّ كُنَّا عِنْد إِسْحَاق بن رَاهَوَيْه، فَقَالَ: لَو جمعتم كتابا مُخْتَصرا لصحيح سُنَّةُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: فَوَقع ذَلِك فِي قلبِي فَأخذت فِي جمع الْجَامِع الصَّحِيح. -
قَالَ البُخَارِيُّ: رَأَيْت النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم وكأنّني وَاقِف بَين يَدَيْهِ، وَبِيَدِي مروحة أذب بهَا عَنهُ، فَسَأَلت بعض المعبرين فَقَالَ لي: أَنْت تذبّ عَنهُ الْكَذِب فَهُوَ الَّذِي حَملَنِي على إِخْرَاج الْجَامِع الصَّحِيح
بعض المزايا التي ذكرها الإمام البخاري عن كتابه:
-
قَالَ الْبُخَارِيُّ: أَخْرَجْتُ هَذَا الْكِتَابَ مِنْ زُهَاءِ سِتِّمِائَةِ أَلْفِ حَدِيثٍ .
-
وقال: مَا وَضَعْتُ فِي كِتَابِيَ " الصَّحِيحِ " حَدِيثًا إِلَّا اغْتَسَلْتُ قَبْلَ ذَلِكَ ، وَصَلَّيْتُ رَكْعَتَيْنِ .
-
وقال : مَا أَدْخَلْتُ فِي هَذَا الْكِتَابِ إِلَّا مَا صَحَّ ، وَتَرَكْتُ مِنَ الصِّحَاحِ كَيْ لَا يَطُولَ الْكِتَابُ .
-
وَقَالَ الْبُخَارِيُّ : صَنَّفْتُ " الصَّحِيحَ " فِي سِتَّ عَشْرَةَ سَنَةً ، وَجَعَلْتُهُ حُجَّةً فِيمَا بَيْنِي وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى .
-
حول البخاري تراجم جامعه-يعني بيّضها - بين قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنبره، وكان يصلي لكلّ ترجمةٍ ركعتين.
لمحة عن كتاب صحيح البخاري:
-
قال أبو جعفر محمود بن عمرو العقيلي: لَمَّا ألَّف البخاري كتاب الصحيح، عرَضه على أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني وغيرهم، فاستحسنوه، وشهدوا له بالصحة، إلا في أربعة أحاديث، قال العُقيلي: والقول فيها قول البخاري، وهي صحيحة.
-
مجموع أحاديث صحيح البخاري بالمكرر – بترقيم الأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي رحمه الله – بلغ (7563) حديثاً.
-
تعتبر أحاديث صحيح البخاري أصح الصحيح، لأنّ الإمام البخاري قد أضاف إلى ما اشترط في حدّ الصّحيح تحقّق اللّقاء بين كلّ راو ومن فوقه, والتزم هذا.
-
انعقد إجماع الأمة على أنّ التّراجم الّتي وضعها الإمام البخاري في كتابه نمت عن فهم عميق ونظر دقيق في معاني النّصوص، حتّى اشتهر بين أهل العلم قولهم: " فقه البخاري في تراجمه ".
-
تناول الكتاب سائر أحكام الشّرع؛ العملية والاعتقادية، وقد قسّم الكتاب إلى (97) كتاباً، ووضع داخل كلّ كتاب أبواب، وقد بدأها بكتاب بدء الوحي، فكتاب الإيمان، فكتاب العلم، ثم دخل في كتب العبادات الوضوء..إلخ، وختم الكتاب بكتاب التّوحيد يسبقه كتاب الاعتصام بالسّنّة، وهو بهذا التّرتيب العجيب يشير إلى أنّ الوحي هو طريق الشّرع، والإيمان به عن علم مع تطبيق الأحكام الّتي أتى بها الشّرع يفضي بالمسلم إلى تمسّكه بالسّنّة، وتحصيله للتّوحيد الحقّ.
-
نقل الحافظ أبو عمرو بن الصلاح في " صيانة صحيح مسلم " (ص/86) بسنده إلى إمام الحرمين الجويني أنّه قال : " لَو حلف إِنْسَان بِطَلَاق امْرَأَته أَن مَا فِي كتابي البُخَارِيّ وَمُسلم مِمَّا حكما بِصِحَّتِهِ من قَول النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم لما ألزمته الطَّلَاق وَلَا حنثته لإِجْمَاع عُلَمَاء الْمُسلمين على صحتهما ".
-
قال الإمام النّووي رحمه الله: قال النّسائي: وأجود هذه الكتب كتاب البخاري. أجمعت الأمة على صحّة هذين الكتابين ووجوب العمل بأحاديثهما ".
"تهذيب الأسماء واللغات" (1/73) -
ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية : " ليس تحت أديم السماء كتاب أصحّ من البخاري ومسلم بعد القرآن ". "مجموع الفتاوى" (18/74)
-
قال أبو عامر الجرجاني في وصف صحيح البخاري:
صـحـيـحُ الـبـخـاريِّ لـو أنـصـفـوه لَـمَـا خُـطَّ إلّا بـمـاء الـذهـبْ
هـو الـفَـرْق بـيـن الـعـمى والـهـدى هو السدُّ دون العنا والعـطـب
أســـانـيـده مـِثـلُ نـجـوم السـّـــمـاء أمـام مـتـونٍ كـمِثـلِ الشُّــهـب
بــه قــام مــيــزانُ دِيــنِ الــنّــبــي ودان له الـعُـجْـمُ بعـد العرب
حـجـابٌ مـن الـنـار لا شــكّ فـيـه تمـيِّـز بـيـن الرضا والغضب
وخــيــرٌ رفـيـق إلى الـمـصـطـفى ونـور مـبـيـنٌ لـكشف الرِّيَب
فـيـا عـالـمـاً أجـمـع الـعـالـمـون عـلـى فـضـل رتبته في الرتب
ســـبـقـتَ الأئـمـة فـيما جمَـعْـت وفـزتَ على رغـمـهـم بالقصب
نـفَـيْـتَ الـضـعـيـف مـن الناقلين ومـن كان مـتَّـهــمـاً بالــكــذب
وأثــبــتّ مــن عــدّلــتــه الـرواة وصـحّـت روايـتـه فـي الـكـتـب
وأبـرزتَ فـي حُســـنِ تـرتـيـبـه وتــبــويــبــه عــجــبــاً لــلـعـجـب
فــأعــطـاك مــولاك مـا تـشـتـهيه وأجـزَلَ حــظّـّـك فــيـمــا وهـــب
وخـصّـك فـي غـرفــات الـجـنـان بــخــيــر يــدوم ولا يــقــتــضـب
إتقان البخاري وضبطه:
-
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ ، قُلْتُ لِأَبِي عَبْدِ اللَّهِ : تَحْفَظُ جَمِيعَ مَا أَدْخَلْتَ فِي الْمُصَنَّفِ؟ فَقَالَ : لَا يَخْفَى عَلَيَّ جَمِيعُ مَا فِيهِ .
-
قال الإمام البخاري: لَوْ نُشِرَ بَعْضُ أُسْتَاذِي هَؤُلَاءِ لَمْ يَفْهَمُوا كَيْفَ صَنَّفْتُ " التَّارِيخَ " ، وَلَا عَرَفُوهُ ، ثُمَّ قَالَ : صَنَّفْتُهُ ثَلَاثَ مَرَّات. أَخَذَ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهْوَيْهِ كِتَابَ " التَّارِيخِ " الَّذِي صَنَّفْتُ ، فَأَدْخَلَهُ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ طَاهِرٍ ، فَقَالَ : أَيُّهَا الْأَمِيرُ ، أَلَا أُرِيكَ سِحْرًا ؟ قَالَ : فَنَظَرَ فِيهِ عَبْدُ اللَّهِ ، فَتَعَجَّبَ ، مِنْهُ ، وَقَالَ لَسْتُ أَفْهَمُ تَصْنِيفَهُ .
-
( ألّف البخاريّ كتابه التّاريخ مراعياً الفضائل، ومراعياً حروف المعجم، ومراعياً التّرتيب التّاريخي، بطريقة خاصّة، وهذا من عجيب التأليف، وكتابه التّاريخ أصل لكلّ ما كتب بعده بنفس الموضوع)
-
قال حَاشِدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ: كَانَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيُّ يَخْتَلِفُ مَعَنَا إِلَى مَشَايِخِ الْبَصْرَةِ وَهُوَ غُلَامٌ ، فَلَا يَكْتُبُ ، حَتَّى أَتَى عَلَى ذَلِكَ أَيَّامٌ ، فَكُنَّا نَقُولُ لَهُ : إِنَّكَ تَخْتَلِفُ مَعَنَا وَلَا تَكْتُبُ ، فَمَا تَصْنَعُ ؟ فَقَالَ لَنَا يَوْمًا بَعْدَ سِتَّةَ عَشَرَ يَوْمًا : إِنَّكُمَا قَدْ أَكْثَرْتُمَا عَلَيَّ وَأَلْحَحْتُمَا ، فَاعْرِضَا عَلَيَّ مَا كَتَبْتُمَا . فَأَخْرَجْنَا إِلَيْهِ مَا كَانَ عِنْدَنَا ، فَزَادَ عَلَى خَمْسَةَ عَشَرَ أَلْفِ حَدِيثٍ ، فَقَرَأَهَا كُلَّهَا عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ، حَتَّى جَعَلْنَا نُحْكِمُ كُتُبَنَا مِنْ حَفِظِهِ . ثُمَّ قَالَ : أَتَرَوْنَ أَنِّي أَخْتَلِفُ هَدْرًا ، وَأُضَيِّعُ أَيَّامِي؟! فَعَرَفْنَا أَنَّهُ لَا يَتَقَدَّمُهُ أَحَدٌ .
-
قدم الْبُخَارِيُّ بَغْدَادَ ، فَسَمِعَ بِهِ أَصْحَابُ الْحَدِيثِ ، فَاجْتَمَعُوا وَعَمَدُوا إِلَى مِائَةِ حَدِيثٍ ، فَقَلَبُوا مُتُونَهَا وَأَسَانِيدَهَا ، وَجَعَلُوا مَتْنَ هَذَا الْإِسْنَادِ هَذَا ، وَإِسْنَادَ هَذَا الْمَتْنِ هَذَا ، وَدَفَعُوا إِلَى كُلِّ وَاحِدٍ عَشْرَةَ أَحَادِيثَ لِيُلْقُوهَا عَلَى الْبُخَارِيِّ فِي الْمَجْلِسِ ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ ، وَانْتُدِبَ أَحَدُهُمْ ، فَسَأَلَ الْبُخَارِيَّ عَنْ حَدِيثٍ مِنْ عَشَرَتِهِ ، فَقَالَ : لَا أَعْرِفُهُ ، وَسَأَلَهُ عَنْ آخَرَ ، فَقَالَ : لَا أَعْرِفُهُ ، وَكَذَلِكَ حَتَّى فَرَغَ مِنْ عَشَرَتِهِ ، فَكَانَ الْفُقَهَاءُ يَلْتَفِتُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ، وَيَقُولُونَ : الرَّجُلُ فَهِمَ ، وَمَنْ كَانَ لَا يَدْرِي قَضَى عَلَى الْبُخَارِيِّ بِالْعَجْزِ ، ثُمَّ انْتُدِبَ آخَرُ، فَفَعَلَ كَمَا فَعَلَ الْأَوَّلُ ، وَالْبُخَارِيُّ يَقُولُ : لَا أَعْرِفُهُ ، ثُمَّ الثَّالِثُ وَإِلَى تَمَامِ الْعَشْرَةِ أَنْفُسِ ، وَهُوَ لَا يَزِيدُهُمْ عَلَى : لَا أَعْرِفُهُ ، فَلَمَّا عَلِمَ أَنَّهُمْ قَدْ فَرَغُوا، الْتَفَتَ إِلَى الْأَوَّلِ مِنْهُمْ ، فَقَالَ : أَمَّا حَدِيثُكَ الْأَوَّلُ فَكَذَا ، وَالثَّانِي كَذَا ، وَالثَّالِثُ كَذَا إِلَى الْعَشْرَةِ ، فَرَدَّ كُلَّ مَتْنٍ إِلَى إِسْنَادِهِ ، وَفَعَلَ بِالْآخَرِينَ مِثْلَ ذَلِكَ ، فَأَقَرَّ لَهُ النَّاسُ بِالْحِفْظِ ، فَكَانَ ابْنُ صَاعِدٍ إِذَا ذَكَرَهُ يَقُولُ : الْكَبْشُ النَّطَّاحُ .
-
كَانَ بِسَمَرْقَنْدَ أَرْبَعُمِائَةٍ مِمَّنْ يَطْلُبُونَ الْحَدِيثَ ، فَاجْتَمَعُوا سَبْعَةَ أَيَّامٍ ، وَأَحَبُّوا مُغَالَطَةَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ ، فَأَدْخَلُوا إِسْنَادَ الشَّامِ فِي إِسْنَادِ الْعِرَاقِ ، وَإِسْنَادَ الْيَمَنِ فِي إِسْنَادِ الْحَرَمَيْنِ ، فَمَا تَعَلَّقُوا مِنْهُ بِسَقْطَةٍ لَا فِي الْإِسْنَادِ ، وَلَا فِي الْمَتْنِ .
-
قَالَ أَبَوعُمَرَ سُلَيْمُ بْنُ مُجَاهِدٍ : كُنْتُ عِنْدَ مُحَمَّدِ بْنِ سَلَامٍ الْبِيْكَنْدِيِّ، فَقَالَ : لَوْ جِئْتَ قَبْلُ لَرَأَيْتَ صَبِيًّا يَحْفَظُ سَبْعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ . قَالَ : فَخَرَجْتُ فِي طَلَبِهِ حَتَّى لَحِقْتُهُ . قَالَ : أَنْتَ الَّذِي يَقُولُ : إِنَّى أَحْفَظُ سَبْعِينَ أَلْفَ حَدِيثٍ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، وَأَكْثَرَ . وَلَا أَجِيئُكَ بِحَدِيثٍ مِنَ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ إِلَّا عَرَّفْتُكَ مَوْلِدَ أَكْثَرِهِمْ وَوَفَاتَهُمْ وَمَسَاكِنَهُمْ ، وَلَسْتُ أَرْوِي حَدِيثًاً مِنْ حَدِيثِ الصَّحَابَةِ أَوِ التَّابِعِينَ إِلَّا وَلِي مِنْ ذَلِكَ أَصْلٌ أَحْفَظُهُ حِفْظًاً عَنْ كِتَابِ اللَّهِ ، وَسُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .
همّته وحرصه على العلم:
-
قال مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْبُخَارِيُّ ، قَالَ : كُنْتُ مَعَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بِمَنْزِلِهِ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَأَحْصَيْتُ عَلَيْهِ أَنَّهُ قَامَ وَأَسْرَجَ يَسْتَذْكِرُ أَشْيَاءَ يُعَلِّقُهَا فِي لَيْلَةٍ ثَمَانِ عَشْرَةَ مَرَّةً.
رؤى في فضله:
-
وَقَالَ النَّجْمُ بْنُ الْفُضَيْلِ : رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي النَّوْمِ ، كَأَنَّهُ يَمْشِي ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ يَمْشِي خَلْفَهُ ، فَكُلَّمَا رَفَعَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدَمَهُ ، وَضَعَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَدَمَهُ فِي الْمَكَانِ الَّذِي رَفَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدَمَهُ .
-
سَمِعْتُ أَبَا زَيْدٍ الْمَرْوَزِيَّ الْفَقِيهَ يَقُولُ : كُنْتُ نَائِمًا بَيْنَ الرُّكْنِ وَالْمَقَامِ ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ، فَقَالَ لِي : يَا أَبَا زَيْدٍ ، إِلَى مَتَى تَدْرُسُ كِتَابَ الشَّافِعِيِّ ، وَلَا تَدْرُسُ كِتَابِي ؟ فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، وَمَا كِتَابُكَ ؟ قَالَ : " جَامِعُ " مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ .
-
وَرَوَى الْخَطِيبُ بِإِسْنَادِهِ عَنِ الْفِرَبْرِيِّ ، قَالَ : رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي النَّوْمِ ، فَقَالَ لِي : أَيْنَ تُرِيدُ ؟ فَقُلْتُ : أُرِيدُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ، فَقَالَ : أَقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ .
من أقوال الإمام البخاري:
-
قال البخاريُ: لَا أَعْلَمُ شَيْئًا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ إِلَّا وَهُوَ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ . فقيل له : يُمْكِنُ مَعْرِفَةُ ذَلِكَ كُلِّهِ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
-
قال الإمام الْبُخَارِيُّ : مَا جَلَسْتُ لِلْحَدِيثِ حَتَّى عَرَفْتُ الصَّحِيحَ مِنَ السَّقِيمِ، وَحَتَّى نَظَرْتُ فِي عَامَّةِ كُتُبِ الرَّأْيِ ، وَحَتَّى دَخَلْتُ الْبَصْرَةَ خَمْسَ مَرَّاتٍ أَوْ نَحْوَهَا . فَمَا تَرَكْتُ بِهَا حَدِيثًا صَحِيحًا إِلَّا كَتَبْتُهُ إِلَّا مَا لَمْ يَظْهَرْ لِي .
-
قَالَ: لَا أَعْلَمُ شَيْئًا أَنْفَعَ لِلْحِفْظِ مِنْ نَهْمَةِ الرَّجُلِ ، وَمُدَاوِمَةِ النَّظَرِ .
-
وقال: مَا اغْتَبْتُ أَحَدًا قَطُّ مُنْذُ عَلِمْتُ أَنَّ الْغَيْبَةَ تَضُرُّ أَهْلَهَا.
أقوال العلماء فيه:
-
قَالَ إِسْحَاقُ بْنُ راهْوَيْهِ : اكْتُبُوا عَنْ هَذَا الشَّابِّ -يَعْنِي : الْبُخَارِيَّ - فَلَوْ كَانَ فِي زَمَنِ الْحَسَنِ لَاحْتَاجَ إِلَيْهِ النَّاسُ لِمَعْرِفَتِهِ بِالْحَدِيثِ وَفِقْهِهِ .
-
قال نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ ويَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الدَّوْرَقِيّ: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ فَقِيهُ هَذِهِ الْأُمَّةِ .
-
قَالَ عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ : أَخْرَجَتْ خُرَاسَانُ ثَلَاثَةً : أَبُو زُرْعَةَ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الدَّارِمِيُّ . وَمُحَمَّدٌ عِنْدِي أَبْصَرُهُمْ وَأَعْلَمُهُمْ وَأَفْقَهُهُمْ .
-
وَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ : سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ : " مَا أَخْرَجَتْ خُرَاسَانُ مِثْلَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ" .
-
قال الْحُسَيْنُ بْنُ حُرَيْثٍ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيِّ: " لَا أَعْلَمُ أَنِّي رَأَيْتُ مِثْلَهُ ، كَأَنَّهُ لَمْ يُخْلَقْ إِلَّا لِلْحَدِيثِ."
-
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ بَشَّارٍ: حُفَّاظُ الدُّنْيَا أَرْبَعَةٌ : أَبُو زُرْعَةَ بِالرَّيِّ ، والدَّارِمِيُّ بِسَمَرْقَنْدَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ بِبُخَارَى ، وَمُسْلِمٌ بِنَيْسَابُورَ .
-
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ : انْتَهَى الْحِفْظُ إِلَى أَرْبَعَةٍ مِنْ أَهْلِ خُرَاسَانَ : أَبُو زُرْعَةَ الرَّازِيُّ ، وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ ، وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّمَرْقَنْدِيُّ ، وَالْحَسَنُ بْنُ شُجَاعٍ الْبَلْخِيُّ .
-
عَنْ أَبِي جَعْفَرٍ الْمُسْنِدِيِّ قَالَ : حُفَّاظُ زَمَانِنَا ثَلَاثَةٌ : مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، وَحَاشِدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ ، وَيَحْيَى بْنُ سَهْلٍ .
-
قال حَاتِمُ بْنُ مَالِكٍ الْوَرَّاقُ ، قَالَ : سَمِعْتُ عُلَمَاءَ مَكَّةَ يَقُولُونَ : مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ إِمَامُنَا وَفَقِيهُنَا وَفَقِيهُ خُرَاسَانَ .
-
وَقَالَ أَبو الطَّيِّبِ حَاتِم بْن مَنْصُورٍ: مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فِي بَصَرِهِ وَنَفَاذِهِ مِنَ الْعِلْمِ .
-
قَالَ رَجَاء الْحَافِظ : فَضْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عَلَى الْعُلَمَاءِ كَفَضْلِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ . فَقَالَ لَهُ رَجُلٌ : يَا أَبَا مُحَمَّدٍ ، كُلُّ ذَلِكَ بِمَرَّةٍ؟! فَقَالَ : هُوَ آيَةٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ يَمْشِي عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ .
-
وَقَالَ قُتَيْبَة بْن سَعِيدٍ : نَظَرْتُ فِي الْحَدِيثِ ، وَنَظَرْتُ فِي الرَّأْيِ ، وَجَالَسْتُ الْفُقَهَاءَ وَالزُّهَّادَ وَالْعُبَّادَ ، مَا رَأَيْتُ مُنْذُ عَقَلْتُ مِثْلَ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ .
-
وَقَالَ أيضاً: مَثَلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ عِنْدَ الصَّحَابَةِ فِي صِدْقِهِ وَوَرَعِهِ، كَمَا كَانَ عُمَرُ فِي الصَّحَابَةِ .
-
وَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَاكِمُ : مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ إِمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ
-
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ حَمْدُونَ بْنِ رُسْتُمَ :
سَمِعْتُ مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ ، وَجَاءَ إِلَى الْبُخَارِيِّ فَقَالَ : دَعْنِي أُقَبِّلْ رِجْلَيْكَ، يَا أُسْتَاذَ الْأُسْتَاذِينَ ، وَسَيِّدَ الْمُحَدِّثِينَ، وَطَبِيبَ الْحَدِيثِ فِي عِلَلِهِ .
-
وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ : لَمْ أَرَ بِالْعِرَاقِ وَلَا بِخُرَاسَانَ فِي مَعْنَى الْعِلَلِ وَالتَّارِيخِ وَمَعْرِفَةِ الْأَسَانِيدِ أَعْلَمَ مِنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ .
-
وَقَالَ شيخ الإسلام أبو عمرو ، أحمد بن نصر بن إبراهيم : مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَعْلَمُ بِالْحَدِيثِ مِنْ إِسْحَاقَ بْنِ راهْوَيْهِ وَأَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ وَغَيْرِهِمَا بِعِشْرِينَ دَرَجَةً ; وَمَنْ قَالَ فِيهِ شَيْئًا ، فَمِنِّي عَلَيْهِ أَلْفُ لَعْنَةٍ.
-
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَعِيدِ بْنِ جَعْفَرٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ الْعُلَمَاءَ بِالْبَصْرَةِ يَقُولُونَ : مَا فِي الدُّنْيَا مِثْلُ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ فِي الْمَعْرِفَةِ وَالصَّلَاحِ .
-
قال أحمد بن عبدالسلام: ذكرنا قول البخاري لعلي بن المديني - يعني: " ما استصغرتُ نفسي إلا بين يدَيْ علي بن المديني "- فقال عليٌّ: دعوا هذا؛ فإنّ محمّد بن إسماعيل لم يرَ مِثلَ نفسه.
-
قال محمد بن إسحاق بن خزيمة: "ما رأيتُ تحت أديم السماء أعلمَ بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحفظَ له مِن محمد بن إسماعيل."
-
وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ صَالِحُ بْنُ مُحَمَّدٍ جَزَرَةُ : كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ يَجْلِسُ بِبَغْدَادَ، وَكُنْتُ أَسْتَمْلِي لَهُ، وَيَجْتَمِعُ فِي مَجْلِسِهِ أَكْثَرُ مِنْ عِشْرِينَ أَلْفًا .
-
قَالَ إِبْرَاهِيمُ الْخَوَّاصُّ: رَأَيْتُ أَبَا زُرْعَةَ كَالصَّبِيِّ جَالِسًا بَيْنَ يَدَيْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ ، يَسْأَلُهُ عَنْ عِلَلِ الْحَدِيثِ .
صفاته وأخلاقه:
كَانَ الإمام البخاري يتمتع بأخلاق عظيمة ومواهب كثيرة، ومواقف كريمة تدلّ على صفاته الكريمة ومنها:
-
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ الْوَرَّاقُ:
-
كَانَ- الإمام البخاري- يَرْكَبُ إِلَى الرَّمْيِ كَثِيرًا ، فَمَا أَعْلَمُنِي رَأَيْتُهُ فِي طُولِ مَا صَحِبْتُهُ أَخْطَأَ سَهْمُهُ الْهَدَفَ إِلَّا مَرَّتَيْنِ ، فَكَانَ يُصِيبُ الْهَدَفَ فِي كُلِّ ذَلِكَ، وَكَانَ لَا يُسْبَقُ .
-
قَالَ : وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : مَا أَكَلْتُ كُرَّاثًا قَطُّ ، وَلَا الْقُنَابَرَى ، قُلْتُ : وَلِمَ ذَاكَ ؟ قَالَ : كَرِهْتُ أَنْ أُوذِيَ مَنْ مَعِي مِنْ نَتَنِهِمَا . قُلْتُ : وَكَذَلِكَ الْبَصَلُ النِّيِّءُ ؟ قَالَ : نَعَمْ .
-
قَالَ : وَحَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْفِرَبْرِيُّ ، قَالَ : كُنْتُ جَالِسًا مَعَ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيِّ بِفِرَبْرِ فِي الْمَسْجِدِ ، فَدَفَعْتُ مِنْ لِحْيَتِهِ قَذَاةً مِثْلَ الذَّرَّةِ أَذْكُرُهَا ، فَأَرَدْتُ أَنْ أُلْقِيَهَا فِي الْمَسْجِدِ ، فَقَالَ : أَلْقِهَا خَارِجًا مِنَ الْمَسْجِدِ .
-
قَالَ : وَأَمْلَى يَوْمًا عَلَيَّ حَدِيثًا كَثِيرًا، فَخَافَ مِلَالِي، فَقَالَ: طِبْ نَفْسًا ، فَإِنَّ أَهْلَ الْمَلَاهِي فِي مَلَاهِيهِمْ ، وَأَهْلَ الصِّنَاعَاتِ فِي صِنَاعَاتِهِمْ ، وَالتُّجَّارَ فِي تِجَارَاتِهِمْ . وَأَنْتَ مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَأَصْحَابِهِ . فَقُلْتُ : لَيْسَ شَيْءٌ مِنْ هَذَا ، يَرْحَمُكَ اللَّهُ إِلَّا وَأَنَا أَرَى الْحَظَّ لِنَفْسِي فِيهِ .
-
قَالَ : وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ : مَا أَرَدْتُ أَنْ أَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ فِيهِ ذِكْرُ الدُّنْيَا إِلَّا بَدَأْتُ بِحَمْدِ اللَّهِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ .
-
قال عبدالله بن محمد الصيارفي: كنت عند محمد بن إسماعيل في منزله، فجاءته جاريته وأرادت دخول المنزل، فعثرَتْ على محبرة بين يديه، فقال لها: كيف تمشين؟ قالت: إذا لم يكن طريقٌ كيف أمشي؟ فبسط يديه وقال: اذهبي فقد أعتقتك، قيل له: يا أبا عبدالله، أغضبَتْك، قال: فقد أرضيتُ نفسي بما فعلت
-
قال الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدٍ السَّمَرْقَنْدِيّ: كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ مَخْصُوصًا بِثَلَاثِ خِصَالٍ مَعَ مَا كَانَ فِيهِ مِنَ الْخِصَالِ الْمَحْمُودَةِ : كَانَ قَلِيلَ الْكَلَامِ ، وَكَانَ لَا يَطْمَعُ فِيمَا عِنْدَ النَّاسِ ، وَكَانَ لَا يَشْتَغِلُ بِأُمُورِ النَّاسِ ، كُلُّ شُغْلِهِ كَانَ فَى الْعِلْمِ . .
-
وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَدِيٍّ الْحَافِظُ : سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ الْحُسَيْنِ الْبَزَّازَ يَقُولُ : رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ شَيْخًا نَحِيفَ الْجِسْمِ ، لَيْسَ بِالطَّوِيلِ وَلَا بِالْقَصِيرِ .
عبادته وورعه:
-
كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ يَخْتِمُ فِي رَمَضَانَ فِي النَّهَارِ كُلَّ يَوْمٍ خَتْمَةً، وَيَقُومُ بَعْدَ التَّراوِيْحِ كُلَّ ثَلَاثِ لَيَالٍ بِخَتْمَةٍ .
-
وَكَانَ يُصَلِّي فِي وَقْتِ السَّحَرِ ثَلَاثَ عَشْرَةَ رَكْعَةً
-
قَالَ بَكْرُ بْنُ مُنِيرٍ : سَمِعْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ الْبُخَارِيَّ يَقُولُ : " أَرْجُو أَنْ أَلْقَى اللَّهَ وَلَا يُحَاسِبُنِي أَنِّي اغْتَبْتُ أَحَدًا ." قُلْتُ(أي الذّهبي): صَدَقَ رَحِمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ نَظَرَ فِي كَلَامِهِ فِي الْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ عَلِمَ وَرَعَهُ فِي الْكَلَامِ فِي النَّاسِ ، وَإِنْصَافَهُ فِيمَنْ يُضَعِّفُهُ ، فَإِنَّهُ أَكْثَرُ مَا يَقُولُ : مُنْكَرُ الْحَدِيثِ ، سَكَتُوا عَنْهُ ، فِيهِ نَظَرٌ ، وَنَحْوَ هَذَا . وَقَلَّ أَنْ يَقُولَ : فُلَانٌ كَذَّابٌ ، أَوْ كَانَ يَضَعُ الْحَدِيثَ . حَتَّى إِنَّهُ قَالَ : إِذَا قُلْتُ فُلَانٌ فِي حَدِيثِهِ نَظَرٌ ، فَهُوَ مُتَّهَمٌ وَاهٍ. وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِ : لَا يُحَاسِبُنِي اللَّهُ أَنِّي اغْتَبْتُ أَحَدًا . وَهَذَا هُوَ وَاللَّهِ غَايَةُ الْوَرَعِ .
-
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ : دُعِيَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ إِلَى بُسْتَانِ بَعْضِ أَصْحَابِهِ، فَلَمَّا صَلَّى بِالْقَوْمِ الظُّهْرَ ، قَامَ يَتَطَوَّعُ ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ صِلَاتِهِ ، رَفْعَ ذَيْلَ قَمِيصِهِ ، فَقَالَ لِبَعْضِ مَنْ مَعَهُ : انْظُرْ هَلْ تَرَى تَحْتَ قَمِيصِي شَيْئًا ؟ فَإِذَا زُنْبُورٌ قَدْ أَبَرَهُ فِي سِتَّةَ عَشَرَ أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ مَوْضِعًا . وَقَدْ تَوَرَّمَ مِنْ ذَلِكَ جَسَدُهُ . فَقَالَ لَهُ بَعْضُ الْقَوْمِ: كَيْفَ لَمْ تَخْرُجْ مِنَ الصَّلَاةِ أَوَّلَ مَا أَبَرَكَ ؟ قَالَ : كُنْتُ فِي سُورَةٍ ، فَأَحْبَبْتُ أَنْ أُتِمَّهَا ! ! .
-
حُمِلَ إِلَى الْبُخَارِيِّ بِضَاعَةٌ ، فَاجْتَمَعَ بَعْضُ التُّجَّارِ إِلَيْهِ ، فَطَلَبُوهَا بِرِبْحِ خَمْسَةِ آلَافِ دِرْهَمٍ . فَقَالَ : انْصَرِفُوا اللَّيْلَةَ . فَجَاءَهُ مِنَ الْغَدِ تُجَّارٌ آخَرُونَ ، فَطَلَبُوا مِنْهُ الْبِضَاعَةَ بِرِبْحِ عَشَرَةِ آلَافٍ . فَقَالَ : إِنِّي نَوَيْتُ بَيْعَهَا لِلَّذِينِ أَتَوُا الْبَارِحَةَ .
محنة الإمام البخاري
قبل أن نبدأ بذكر محنة الإمام البخاري رحمه الله تعالى لا بدّ لنا أن نعلم ما هو العصر الذّي عاش فيه الإمام البخاري؛ لكي يتبين لنا سبب محنته. عاش الإمام البخاري في عصر المأمون الّذي تبنّى فكرة خلق القرآن؛ ليستطيع من خلال ذلك التّحكّم بعلماء المسلمين وإخضاعهم له، وقد وقف في وجهه العلماء، وبيّنوا له الحقّ، ولكن عندما استخدم منطق القوّة لا الحجّة لم يقف في وجهه إلّا القليل، كأمثال الإمام أحمد الّذي قال : " إذا أجاب العالم تقيّة والجاهل يجهل فمتى يتبين الحق؟"
ومات المأمون، وجاء بعده المعتصم، ثمّ الواثق، وثلاثتهم كانوا يجبرون النّاس على هذه البدعة، فصار عامّة المسلمين ينظرون نظرة شكّ وريب لمن تكلّم في هذا الموضوع، وصارت العبارة الّتي يجمعون عليها هي كلمة الإمام أحمد: ( القرآن كلام الله غير مخلوق) ولعظم المحن الّتي مرّت بالأمّة كان النّاس لا يريدون أي تفصيل في ذلك، لأنّه بنظرهم يمكن أن يكون مدخلاً لأهل البدع، ولكن الإمام البخاري رأى أنّ تفصيل ذلك يتعلّق بموضوع آخر، وهو أنّ الله تعالى خالق العبد وعمله ، فقال: (أفعال العباد مخلوقة) وقد ألّف في ذلك كتاباً سمّاه (خلق أفعال العباد و الردّ على الجهميّة و المعطّلة) ، وكان التّكلّم بهذا الموضوع في عصره يعدّ أمراً خطيراً عند عامة المسلمين، ومن هنا وقف في وجهه بعض أهل العلم، فرحم الله الجميع وغفر لهم.
المحنة الأولى بنيسابور:
-
قَالَ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ : سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ حَامِدٍ الْبَزَّازَ قَالَ : سَمِعْتُ الْحَسَنَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ جَابِرٍ يَقُولُ : سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى قَالَ لَنَا لَمَّا وَرَدَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيُّ نَيْسَابُورَ : اذْهَبُوا إِلَى هَذَا الرَّجُلِ الصَّالِحِ فَاسْمَعُوا مِنْهُ . فَذَهَبَ النَّاسُ إِلَيْهِ ، وَأَقْبَلُوا عَلَى السَّمَاعِ مِنْهُ ، حَتَّى ظَهَرَ الْخَلَلُ فِي مَجْلِسِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى ، فَحَسَدَهُ بَعْدَ ذَلِكَ ، وَتَكَلَّمَ فِيهِ .
-
وَقَالَ أَبُو سَعِيدٍ حَاتمُ بْنُ أَحْمَدَ الْكِنْدِيُّ : سَمِعْتُ مُسْلِمَ بْنَ الْحَجَّاجِ يَقُولُ : لَمَّا قَدِمَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ نَيْسَابُورَ مَا رَأَيْتُ وَالِيًا وَلَا عَالِمًا فَعَلَ بِهِ أَهْلُ نَيْسَابُورَ مَا فَعَلُوا بِهِ ، اسْتَقْبَلُوهُ مَرْحَلَتَيْنِ وَثَلَاثَةً . فَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى فِي مَجْلِسِهِ : مَنْ أَرَادَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ غَدًا فَلْيَسْتَقْبِلْهُ . فَاسْتَقْبَلَهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى وَعَامَّةُ الْعُلَمَاءِ ، فَنَزَلَ دَارَ الْبُخَارِيِّينَ ، فَقَالَ لَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى : لَا تَسْأَلُوهُ عَنْ شَيْءٍ مِنَ الْكَلَامِ ، فَإِنَّهُ إِنْ أَجَابَ بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ ، وَقَعَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُ ، ثُمَّ شَمِتَ بِنَا كُلُّ حَرُورِيٍّ ، وَكُلُّ رَافِضِيٍّ ، وَكُلُّ جَهْمِيٍّ ، وَكُلُّ مُرْجِئٍ بِخُرَاسَانَ . قَالَ : فَازْدَحَمَ النَّاسُ عَلَى مُحَمَّدِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ ، حَتَّى امْتَلَأَ السَّطْحُ وَالدَّارُ، فَلَمَّا كَانَ الْيَوْمُ الثَّانِي أَوِ الثَّالِثُ ، قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ ، فَسَأَلَهُ عَنِ اللَّفْظِ بِالْقُرْآنِ، فَقَالَ : أَفْعَالُنَا مَخْلُوقَةٌ ، وَأَلْفَاظُنَا مِنْ أَفْعَالِنَا . فَوَقَعَ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ ، فَقَالَ بَعْضُ النَّاسِ : قَالَ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ : لَمْ يَقُلْ ، حَتَّى تَوَاثَبُوا ، فَاجْتَمَعَ أَهْلُ الدَّارِ ، وَأَخْرَجُوهُمْ .
-
وَقَالَ أَبُو أَحْمَدَ بْنُ عَدِيٍّ . ذَكَرَ لِي جَمَاعَةٌ مِنَ الْمَشَايِخِ أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ لَمَّا وَرَدَ نَيْسَابُورَ اجْتَمَعَ النَّاسُ عَلَيْهِ ، حَسَدَهُ بَعْضُ مَنْ كَانَ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مِنْ مَشَايِخِ نَيْسَابُورَ لَمَّا رَأَوْا إِقْبَالَ النَّاسِ إِلَيْهِ ، وَاجْتِمَاعَهُمْ عَلَيْهِ ، فَقَالَ لِأَصْحَابِ الْحَدِيثِ : إِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ يَقُولُ : اللَّفْظُ بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ ، فَامْتَحِنُوهُ فِي الْمَجْلِسِ . فَلَمَّا حَضَرَ النَّاسُ مَجْلِسَ الْبُخَارِيِّ ، قَامَ إِلَيْهِ رَجُلٌ ، فَقَالَ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، مَا تَقُولُ فِي اللَّفْظِ بِالْقُرْآنِ ، مَخْلُوقٌ هُوَ أَمْ غَيْرُ مَخْلُوقٍ ؟ فَأَعْرَضَ عَنْهُ الْبُخَارِيُّ وَلَمْ يُجِبْهُ . فَقَالَ الرَّجُلُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ، فَأَعَادَ عَلَيْهِ الْقَوْلَ ، فَأَعْرَضَ عَنْهُ . ثُمَّ قَالَ فِي الثَّالِثَةِ ، فَالْتَفَتَ إِلَيْهِ الْبُخَارِيُّ ، وَقَالَ : الْقُرْآنُ كَلَامُ اللَّهِ غَيْرُ مَخْلُوقٍ، وَأَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ وَالِامْتِحَانُ بِدْعَةٌ فَشَغَبَ الرَّجُلُ، وَشَغَبَ النَّاسُ ، وَتَفَرَّقُوا عَنْهُ، وَقَعَدَ الْبُخَارِيُّ فِي مَنْزِلِهِ .
-
قَالَ الْحَاكِمُ : حَدَّثَنَا طَاهِرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَرَّاقُ ، سَمِعْتُ مُحَمَّدَ بْنَ شَاذِلٍ يَقُولُ : لَمَّا وَقَعَ بَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى وَالْبُخَارِيِّ ، دَخَلْتُ عَلَى الْبُخَارِيِّ ، فَقُلْتُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، أَيْشِ الْحِيلَةُ لَنَا فِيمَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى ، كُلُّ مَنْ يَخْتَلِفُ إِلَيْكَ يُطْرَدُ ؟ فَقَالَ : كَمْ يَعْتَرِي مُحَمَّدَ بْنَ يَحْيَى الْحَسَدُ فِي الْعِلْمِ، وَالْعِلْمُ رِزْقُ اللَّهِ يُعْطِيهِ مَنْ يَشَاءُ . فَقُلْتُ : هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ الَّتِي تُحْكَى عَنْكَ ؟ قَالَ : يَا بُنِيَّ ، هَذِهِ مَسْأَلَةٌ مَشْؤُومَةٌ ، رَأَيْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ ، وَمَا نَالَهُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ، وَجَعَلْتُ عَلَى نَفْسِي أَنْ لَا أَتَكَلَّمَ فِيهَا .
-
وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْأَعْمَشِيُّ : رَأَيْتُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ فِي جِنَازَةِ أَبِي عُثْمَانَ سَعِيدِ بْنِ مَرْوَانَ. وَمُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى يَسْأَلُهُ عَنِ الْأَسَامِي وَالْكُنَى وَعِلَلِ الْحَدِيثِ ، وَيَمُرُّ فِيهِ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ مِثْلَ السَّهْمِ . فَمَا أَتَى عَلَى هَذَا شَهْرٌ حَتَّى قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى : أَلَا مَنْ يَخْتَلِفُ إِلَى مَجْلِسِهِ فَلَا يَخْتَلِفْ إِلَيْنَا ، فَإِنَّهُمْ كَتَبُوا إِلَيْنَا مِنْ بَغْدَادَ أَنَّهُ تَكَلَّمَ فِي اللَّفْظِ ، وَنَهَيْنَاهُ ، فَلَمْ يَنْتَهِ ، فَلَا تَقْرَبُوهُ ، وَمَنْ يَقْرَبْهُ فَلَا يَقْرَبْنَا .
-
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ الْحَافِظَ : لَمَّا اسْتَوْطَنَ الْبُخَارِيُّ نَيْسَابُورَ أَكْثَرَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ الِاخْتِلَافَ إِلَيْهِ ، فَلَمَّا وَقَعَ بَيْنَ الذُّهْلِيِّ وَبَيْنَ الْبُخَارِيِّ مَا وَقَعَ فِي مَسْأَلَةِ اللَّفْظِ ، وَنَادَى عَلَيْهِ ، وَمَنَعَ النَّاسَ عَنْهُ ، انْقَطَعَ عَنْهُ أَكْثَرُ النَّاسِ غَيْرَ مُسْلِمٍ . فَقَالَ الذُّهْلِيُّ يَوْمًا : أَلَا مَنْ قَالَ بِاللَّفْظِ فَلَا يَحِلُّ لَهُ أَنْ يَحْضُرَ مَجْلِسَنَا .
فَأَخَذَ مُسْلِمٌ رِدَاءً فَوْقَ عِمَامَتِهِ ، وَقَامَ عَلَى رُؤُوسِ النَّاسِ، وَبَعَثَ إِلَى الذُّهْلِيِّ مَا كَتَبَ عَنْهُ عَلَى ظَهْرِ جَمَّالٍ . وَكَانَ مُسْلِمٌ يُظْهِرُ الْقَوْلَ بِاللَّفْظِ وَلَا يَكْتُمُهُ . -
وَقَالَ أَحْمَدُ بْنُ سَلَمَةَ: دَخَلْتُ عَلَى الْبُخَارِيِّ ، فَقُلْتُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، هَذَا رَجُلٌ مَقْبُولٌ بِخُرَاسَانَ خُصُوصًا فِي هَذِهِ الْمَدِينَةِ ، وَقَدْ لَجَّ فِي هَذَا الْحَدِيثِ حَتَّى لَا يَقْدِرَ أَحَدٌ مِنَّا أَنْ يُكَلِّمَهُ فِيهِ ، فَمَا تَرَى ؟ فَقَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ ، ثُمَّ قَالَ : وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ، اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي لَمْ أُرِدِ الْمُقَامَ بِنَيْسَابُورَ أَشَرًا وَلَا بَطَرًا ، وَلَا طَلَبًا لِلرِّئَاسَةِ ، وَإِنَّمَا أَبَتْ عَلَيَّ نَفْسِي فِي الرُّجُوعِ إِلَى وَطَنِي لِغَلَبَةِ الْمُخَالِفِينَ ، وَقَدْ قَصَدَنِي هَذَا الرَّجُلُ حَسَدًا لِمَا آتَانِي اللَّهُ لَا غَيْرَ. ثُمَّ قَالَ لِي: يَا أَحْمَدُ ، إِنِّي خَارِجٌ غَدًا لِتَتَخَلَّصُوا مِنْ حَدِيثِهِ لِأَجْلِي.
-
قال الذّهبي: وَسَافَرَ ابْنُ إِسْمَاعِيلَ مُخْتَفِيًا مِنْ نَيْسَابُورَ ، وَتَأَلَّمَ مِنْ فِعْلِ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى، وَمَا زَالَ كَلَامُ الْكِبَارِ الْمُتَعَاصِرِينَ بَعْضِهِمْ فِي بَعْضٍ لَا يُلْوَى عَلَيْهِ بِمُفْرَدِهِ رَحِمَ اللَّهُ الْجَمِيعَ وَغَفَرَ لَهُمْ وَلَنَا آمِينَ .
ثمّ خرج الإمام البخاري إلى بخارى، وهناك جرت معه المحنة الثّانيّة :
-
لَمَّا قَدِمَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بُخَارَى نُصِبَ لَهُ الْقِبَابُ عَلَى فَرْسَخٍ مِنَ الْبَلَدِ ، وَاسْتَقْبَلَهُ عَامَّةُ أَهْلِ الْبَلَدِ حَتَّى لَمْ يَبْقَ مَذْكُورٌ إِلَّا اسْتَقْبَلَهُ.
-
قال أَبَو بَكْرِ بْنَ أَبِي عَمْرٍو الْحَافِظَ الْبُخَارِيَّ : كَانَ سَبَبُ مُنَافَرَةِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ خَالِدَ بْنَ أَحْمَدَ الذُّهْلِيَّ الْأَمِيرَ خَلِيفَةَ الطَّاهِرِيَّةِ بِبُخَارَى سَأَلَ أَنْ يَحْضُرَ مُنْزِلَهُ ، فَيَقْرَأَ "الْجَامِعَ" وَ "التَّارِيخَ " عَلَى أَوْلَادِهِ ، فَامْتَنَعَ عَنِ الْحُضُورِ عِنْدَهُ ، فَرَاسَلَهُ بِأَنْ يَعْقِدَ مَجْلِسًا لِأَوْلَادِهِ ، لَا يَحْضُرُهُ غَيْرُهُمْ ، فَامْتَنَعَ ، وَقَالَ : لَا أَخُصُّ أَحَدًا . فَاسْتَعَانَ الْأَمِيرُ بحُرَيْثِ بْنِ أَبِي الْوَرْقَاءِ وَغَيْرِهِ ، حَتَّى تَكَلَّمُوا فِي مَذْهَبِهِ ، وَنَفَاهُ عَنِ الْبَلَدِ ، فَدَعَا عَلَيْهِمْ ، فَلَمْ يَأْتِ إِلَّا شَهْرٌ حَتَّى وَرَدَ أَمْرُ الطَّاهِرِيَّةِ ، بِأَنْ يُنَادَى عَلَى خَالِدٍ فِي الْبَلَدِ ، فَنُودِيَ عَلَيْهِ عَلَى أَتَانٍ . وَأَمَّا حُرَيْثٌ ، فَإِنَّهُ ابْتُلِيَ بِأَهْلِهِ ، فَرَأَى فِيهَا مَا يَجِلُّ عَنِ الْوَصْفِ. وَأَمَّا فُلَانٌ، فَابْتُلِيَ بِأَوْلَادِهِ، وَأَرَاهُ اللَّهُ فِيهِمُ الْبَلَايَا.
-
قَالَ أَبُو عَمْرٍو الْخَفَّافُ ، فَأَتَيْتُ الْبُخَارِيَّ ، فَنَاظَرْتُهُ فِي شَيْءٍ مِنَ الْأَحَادِيثِ حَتَّى طَابَتْ نَفْسُهُ فَقُلْتُ : يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، هَاهُنَا أَحَدٌ يَحْكِي عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ هَذِهِ الْمَقَالَةَ . فَقَالَ : يَا أَبَا عَمْرٍو ، احْفَظْ مَا أَقُولُ لَكَ : مَنْ زَعَمَ مِنْ أَهْلِ نَيْسَابُورَ وَقُومِسَ وَالرَّيِّ وَهَمَذَانَ وَحُلْوَانَ وَبَغْدَادَ وَالْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ وَمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ أَنِّي قُلْتُ : لَفْظِي بِالْقُرْآنِ مَخْلُوقٌ فَهُوَ كَذَّابٌ. فَإِنِّي لَمْ أَقُلْهُ، إِلَّا أَنِّي قُلْتُ: أَفْعَالُ الْعِبَادِ مَخْلُوقَةٌ .
-
وَقَالَ سَهْلُ بْنُ شَاذَوَيْهِ : كَانَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ يَسْكُنُ سِكَّةَ الدَّهْقَانِ ، وَكَانَ جَمَاعَةٌ يَخْتَلِفُونَ إِلَيْهِ ، يُظْهِرُونَ شِعَارَ أَهْلِ الْحَدِيثِ مِنْ إِفْرَادِ الْإِقَامَةِ ، وَرَفْعِ الْأَيْدِي فِي الصَّلَاةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ . فَقَالَ حُرَيْثُ بْنُ أَبِي الْوَرْقَاءِ وَغَيْرُهُ : هَذَا رَجُلٌ مُشْغِبٌ ، وَهُوَ يُفْسِدُ عَلَيْنَا هَذِهِ الْمَدِينَةَ ، وَقَدْ أَخْرَجَهُ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى مِنْ نَيْسَابُورَ، وَهُوَ إِمَامُ أَهْلِ الْحَدِيثِ ، فَاحْتَجُّوا عَلَيْهِ بِابْنِ يَحْيَى ، وَاسْتَعَانُوا عَلَيْهِ بِالسُّلْطَانِ فِي نَفْيِهِ مِنَ الْبَلَدِ ، فَأُخْرِجُ .
ربّ ضارة نافعة
-
قَالَ الْحَاكِمُ : سَمِعْتُ أَحْمَدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ وَاصِلٍ الْبِيْكَنْدِيَّ ، سَمِعْتُ أَبِي يَقُولُ : مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا بِخُرُوجِ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ، وَمُقَامِهِ عِنْدَنَا، حَتَّى سَمِعْنَا مِنْهُ هَذِهِ الْكُتُبَ، وَإِلَّا مَنْ كَانَ يَصِلُ إِلَيْهِ وَبِمَقَامِهِ فِي هَذِهِ النَّوَاحِي: فِرَبْرَ وَبِيْكَنْدَ، بَقِيَتْ هَذِهِ الْآثَارُ فِيهَا، وَتَخَرَّجَ النَّاسُ بِهِ .
-
قُلْتُ - أي الذّهبي- : خَالِدُ بْنُ أَحْمَدَ الْأَمِيرُ ، قَالَ الْحَاكِمُ : لَهُ بِبُخَارَى آثَارٌ مَحْمُودَةٌ كُلُّهَا ، إِلَّا مَوْجِدَتَهُ عَلَى الْبُخَارِيِّ ، فَإِنَّهَا زَلَّةٌ ، وَسَبَبٌ لِزَوَالِ مُلْكِهِ .
الإمام البخاري في قرية خرتنك
-
لما خرج الإمام البخاري من بخارى كتب إليه أهل سمرقند، فسار إليهم، فلما كان بقرية خرتنك – وهي على بعد فرسخين من سمرقند- بلغه وقوع فتنة بينهم بسببه، وكان له أقرباء بها، فنـزل عندهم حتى ينجلي الأمر.
-
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ : سَمِعْتُ عَبْدَ الْقُدُّوسِ بْنَ عَبْدِ الْجَبَّارِ السَّمَرْقَنْدِيَّ ، يَقُولُ : جَاءَ مُحَمَّدٌ إِلَى أَقْرِبَائِهِ بِخَرْتَنْكَ ، فَسَمِعْتُهُ يَدْعُو لَيْلَةً إِذْ فَرَغَ مِنْ وِرْدِهِ :
" اللَّهُمَّ إِنَّهُ قَدْ ضَاقَتْ عَلَيَّ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ، فاقْبِضْنِي إِلَيْكَ ". فَمَا تَمَّ الشَّهْرُ حَتَّى مَاتَ
وفاة البخاري رحمه الله تعالى:
-
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ : سَمِعْتُ أَبَا مَنْصُورٍ غَالِبَ بْنَ جِبْرِيلَ وَهُوَ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ : إِنَّهُ أَقَامَ عِنْدَنَا أَيَّامًا ، فَمَرِضَ ، وَاشْتَدَّ بِهِ الْمَرَضُ حَتَّى وَجَّهَ رَسُولًا إِلَى مَدِينَةِ سَمَرْقَنْدَ فِي إِخْرَاجِ مُحَمَّدٍ ، فَلَمَّا وَافَى تَهَيَّأَ لِلرُّكُوبِ ، فَلَبِسَ خُفَّيْهِ، وَتَعَمَّمَ، فَلِمَا مَشَى قَدْرَ عِشْرِينَ خُطْوَةً أَوْ نَحْوَهَا ، وَأَنَا آخِذٌ بِعَضُدِهِ، وَرَجُلٌ أَخْذَ مَعِي يَقُودُهُ إِلَى الدَّابَّةِ لِيَرْكَبَهَا، فَقَالَ-رَحِمَهُ اللَّهُ-: أَرْسِلُونِي، فَقَدْ ضَعُفْتُ. فَدَعَا بِدَعَوَاتٍ، ثُمَّ اضْطَجَعَ ، فَقَضَى رَحِمَهُ اللَّهُ. فَسَالَ مِنْهُ الْعَرَقُ شَيْءٌ لَا يُوصَفُ ، فَمَا سَكَنَ مِنْهُ الْعَرَقُ إِلَى أَنْ أَدْرَجْنَاهُ فِي ثِيَابِهِ وَكَانَ فِيمَا قَالَ لَنَا، وَأَوْصَى إِلَيْنَا أَنْ كَفِّنُونِي فِي ثَلَاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ لَيْسَ فِيهَا قَمِيص وَلَا عِمَامَةٌ فَفَعَلْنَا ذَلِكَ.
-
وَقَالَ خَلَفُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْخَيَّامُ : سَمِعْتُ مَهِيبَ بْنَ سُلَيْمٍ الْكَرْمِينِيَّ يَقُولُ : مَاتَ عِنْدَنَا الْبُخَارِيُّ لَيْلَةَ عِيدِ الْفِطْرِ سَنَةَ سِتٍ وَخَمْسِينَ ، وَقَدْ بَلَغَ اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ سَنَةً، وَكَانَ فِي بَيْتٍ وَحْدَهُ ، فَوَجَدْنَاهُ لَمَّا أَصْبَحَ وَهُوَ مَيِّتٌ .
-
وعلى ذلك فإنّ البخاري رحمه الله تعالى قد توفّي في ليلة عيد الفطر1 / شوال / 256 هـ الموافق لـ 31 / 8 / 870 وقد أرّخ بعضهم مولد البخاري وموته بقوله: (ولد في صدق ومات في نور)(ص = 90 ) و ( د = 4 ) و ( ق = 100) = 194هـ سنة ولادته (ن = 50 ) و ( و = 6 ) و ( ر = 200) = 256هـ سنة وفاته
من كرامات البخاري عند موته:
-
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَكِّيٍّ الْجُرْجَانِيُّ: سَمِعْتُ عَبْدَ الْوَاحِدِ بْنَ آدَمَ الطَّوِاوِيْسِيَّ يَقُولُ : رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي النَّوْمِ، وَمَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَهُوَ وَاقِفٌ فِي مَوْضِعٍ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْه، فَرَدَّ عَلَيَّ السَّلَامَ، فَقُلْتُ : مَا وُقُوفُكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : أَنْتَظِرُ مُحَمَّدَ بْنَ إِسْمَاعِيلَ الْبُخَارِيَّ فَلَمَّا كَانَ بَعْدَ أَيَّامٍ بَلَغَنِي مَوْتُهُ ، فَنَظَرْتُ فَإِذَا قَدْ مَاتَ فِي السَّاعَةِ الَّتِي رَأَيْتُ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِيهَا .
-
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ : سَمِعْتُ أَبَا مَنْصُورٍ غَالِبَ بْنَ جِبْرِيلَ وَهُوَ الَّذِي نَزَلَ عَلَيْهِ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ يَقُولُ: فَلَمَّا دَفَنَّاهُ فَاحَ مِنْ تُرَابِ قَبْرِهِ رَائِحَةٌ غَالِيَةٌ أَطْيَبُ مِنَ الْمِسْكِ، فَدَامَ ذَلِكَ أَيَّامًا، ثُمَّ عَلَتْ سَوَارِيُّ بِيضٌ فِي السَّمَاءِ مُسْتَطِيلَةٌ بِحِذَاءِ قَبْرِهِ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَخْتَلِفُونَ، وَيَتَعَجَّبُونَ. وَأَمَّا التُّرَابُ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَرْفَعُونَ عَنِ الْقَبْرِ،حَتَّى ظَهَرَ الْقَبْرُ، وَلَمْ نَكُنْ نَقْدِرُ عَلَى حِفْظِ الْقَبْرِ بِالْحُرَّاسِ، وَغُلِبْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا، فَنَصَبْنَا عَلَى الْقَبْرِ خَشَبًا مُشَبَّكًا لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ يَقْدِرُ عَلَى الْوُصُولِ إِلَى الْقَبْرِ فَكَانُوا يَرْفَعُونَ مَا حَوْلَ الْقَبْرِ مِنَ التُّرَابِ ، وَلَمْ يَكُونُوا يَخْلُصُونَ إِلَى الْقَبْرِ وَأَمَّا رِيحُ الطِّيبِ فَإِنَّهُ تَدَاوَمَ أَيَّامًا كَثِيرَةً ، حَتَّى تَحَدَّثَ أَهْلُ الْبَلْدَةِ ، وَتَعَجَّبُوا مِنْ ذَلِكَ ، وَظَهَرَ عِنْدَ مُخَالِفِيهِ أَمْرُهُ بَعْدَ وَفَاتِهِ ، وَخَرَجَ بَعْضُ مُخَالِفِيهِ إِلَى قَبْرِهِ ، وَأَظْهَرُوا التَّوْبَةَ وَالنَّدَامَةَ مِمَّا كَانُوا شَرَعُوا فِيهِ مِنْ مَذْمُومِ الْمَذْهَبِ .
-
رحم الله عزّ وجل أمير المؤمنين بالحديث الإمام البخاريّ، وجزاه الله عنّا وعن جميع المسلمين خير الجزاء، ونسأل الله تعالى أن يجمعنا معه في جنّات الفردوس مع النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًاً، إنّه على ما يشاء قدير وبالإجابة جدير، وآخر دعوانا أن الحمد لله ربّ العالمين.