علامة الشّام الشّيخ عليّ الدّقر
علامة الشّام الشّيخ عليّ الدّقر
1294 -1362 هـ = 1877 -1943م
رجل أحيا الله به أمّة
صاحب أكبر نهضة علميّة في بلاد الشّام
قال عنه الشّيخ عليّ الطّنطاوي: "الرّجل الّذي هزّ دمشق من أربعين سنة هزّة لم تعرف مثلها من مئتي سنة، وصرخ في أرجائها صرخة الإيمان، فتجاوبت أصداؤها في أقطار الشّام، واستجاب لها النّاس، يعودون إلى دين الله أفواجاً، يبتدرون المساجد، و يستبقون إلى حلقاتها.. وهو علّامة الشّام.. بل هو في الشّام علم الأعلام، أعطي من التّوفيق في العمل، والعمق في الأثر، ما لم يعط مثله الشّيخ بدر الدّين ولا غيره من مشايخ الشّام في تلك الأيّام"
1 _ اسمه وولادته:
هو الشّيخ الشّريف محمّد عليّ بن عبد الغني الدّقر، الحسيني الدّمشقي. ولِد الشّيخ علي في دمشق عام 1294 هـ الموافق 1877م من أسرة دمشقيّة عريقة، ولأمّ صالحة محسنة، وأب تاجر صالح محسن، من أكرم النّاس، وأوسعهم جودًا.
2 _ نشأته العلمية ومشايخه:
تعلّم في الكتّاب القراءة والكتابة وشيئاً يسيراً من القرآن الكريم، ثم انتقل إلى مدرسة الشّيخ عيد السّفرجلاني، أفاد منها شيئاً من علوم اللّغة العربيّة، وعلوم الدّين، ثمّ لازم الشّيخ محمّد القاسمي، وقرأ عليه من علوم العربيّة والدّين ما أهّله لتدريس شيء من علم النحو ومن الفقه الشّافعي، وصحب المحدّثَ الشّيخ بدرالدّين الحسني، وكان من أحبّ تلاميذه إليه، وأقربهم منه، وقرأ عليه الكتب الخمسة، كما قرأ على غيره من علماء الشام كالشّيخ أمين سويد، ما جعله عالماً فقيهاً يشار إليه بالبنان.
3 _ من أعماله:
هو صاحب أضخم نهضة علميّة في بلاد الشّام في القرن الرّابع عشر الهجري، والعشرين الميلادي. فقد كان التّعليم الرّسمي في سورية بعيداً عن الله وعن تعاليم الإسلام ومبادئ الأخلاق، وتأثر بالغرب وعلومه.
أ- فأنشأ الشّيخ العديد من المدارس والمعاهد الشّرعية، الّتي تعلّم العقيدة، وأحكام الإسلام، والعلوم الشّرعية، والعلوم العربيّة التي هي مفتاح العلوم الشّرعية.
ب - إنشاء (الجمعية الغراء لتعليم أولاد الفقراء) ثم انطلق يحشد الطلاب لدراسة العلم الشّرعي من أولاد الفقراء في حوران، والأردن، وبعض المدن والقرى السّورية.
ج - إنشاء جيل من الدّعاة: قال الشّيخ علي الطّنطاوي عن طلّاب الشّيخ علي الدقر: "من طلابه الذين ينهجون نهجه ويتبعون أثره اثنان من علماء الشام، الشيخ حسن حبنكة، وله معهد ضخم يبث فيه العلم وينشر روح الاسلام، والشّيخ عبد الكريم الرّفاعي وعنده مئات ومئات من الطّلاب، وهو قائد من أفضل قادة الجبهات الإسلامية إخلاصاً وعلماً وعملاً وعفة يد ونزاهة نفس وحسن خلق.
د - وكان للشيخ الجليل دور بارز وكبير في إشعال لهيب الثّورة السّورية الكبرى1925م، فقد قام الشّيخ علي مع الشّيخ بدر الدين ولفيف من علماء برحلة طافوا فيها مدن سورية عام 1924م، للدّعوة وبحماس شديد مع غيرة دينية لطرد العدو الفرنسي من سوريّة، قائلاً: "يا إخواننا اللّص دخل الدّار وهو يطلب منكم ثلاثة أشياء: دينكم، ومالكم، وعرضكم" ولما سئل الشّيخ: من هو هذا اللّص يا شيخنا؟ أجاب: إنّه فرنسا. وبعد أن علم الفرنسيون المستعمرون بدور الشّيخ، قاموا بحرق مقرّ الجمعية الغرّاء، وجامع تنكز معاً، قبل رحيلهم انتقاماً منه.
4 _ دعوته:
كان الشّيخ نشيطاً في الدّعوة، في مساجد دمشق وغيرها من المدن والقرى السّوريّة، وكان عظيم التّأثير في النّفوس، وقد مرّت دعوته بمرحلتين:
الأولى: كانت دعوته موجّهة لطلبة العلم، وغايتها زيادة المعلومات، فكانت هذه الدّعوة ناقصة، تجعل أهل العلم يعيشون في واد والمجتمع يعيش في واد آخر، وخاصة عندما ينشط دعاة الشّر فيزيّنون الشّر للنّاس فينتشر الفساد في المجتمع،وقد شعر الشّيخ علي الدقر بهذا فما كان منه إلّا أن أقبل على النّاس وانتقلت دعوته
إلى المرحلة الثّانية: الّتي كانت موجّهة للجميع بكامل جوانب الحياة، وغايتها زرع خشية الله في النّفوس لتطبيق الإسلام عن حب وعلم.
وقد أوضح الشّيخ عليّ الطّنطاوي ذلك عندما ترجم للشّيخ عليّ الدّقر فقال عنه:لقد أمضى شطراً من عمره لا يدري به أحد وشطراً لا يجهله في دمشق أحد، كان يقرأ على الطّريقة الأزهرية الّتي لم نكن نعرف طريقة لطلب العلم غيرها، وهي أن يأخذ الشّيخ نسخة من الكتاب، ويأخذ كلّ تلميذ نسخة، فيقرأ لهم ويشرح أو يقرؤون عليه ويفسر، لا عمل له إلّا بيان قصد المصنّف رحمه الله تعالى، وتوضيح عبارته، أمّا تلخيص الموضوع والكلام فيه والإلمام بجوانبه وأمثال هذا ممّا يهتمّ به الطّالب اليوم فلم يكن من همّهم، فإذا ختموا الكتاب شرعوا في غيره، فلا يدرس طالب العلم علوماً ولكن يقرأ كتباً، كانت هذه طريقة العلماء جميعاً، وهي الّتي سلكها الشّيخ علي، ويحضر درسه نفر كانوا لقلّتهم تتّسع لهم سدّة المسجد، فكان الشّيخ يقرأ فيها لا ينزل منها، واستمرّ الشّيخ عليّ في درسه، وكانت أيّام الانتداب في الشّام، وقد بدأ الفساد يدخل إلى البلاد، والشّيخ لا يدري بشيء، لأنّه لا يعرف من دنياه إلّا داره ومسجده وكتابه وصلاته، وجاءه من قصّ عليه خبر ما جدّ في البلد من التّكشّف، وكان كلّ الّذي جدّ أنّ امرأة واحدة معاونة مديرة دار المعلّمات سارت في الطّريق مكشوفة الوجه، وخبر المدارس الّتي تعلّم علوماً ما سمع بها الشّيخ وما عرفها من علوم الكفّار، وأنّ مدرّسيها من الّذين تعلّموا في بلاد الإفرنج أو على أيدي الإفرنج، فعظم عليه الأمر، وفكّر ليالي طوالاً.. ماذا يعمل؟
وظهر أثر هذا التّفكير الطّويل في دروسه، فلم يعد يقتصر على شرح عبارة الكتاب، بل صار يتكلّم من عنده يرقّق القلوب ويذكّر بالآخرة، ويدعو إلى الإصلاح، فكثر المستمعون حتّى ضاقت عنهم السّدة، فنزل إلى أرض المسجد، ثمّ ضاق عنهم المسجد، فصار يدرّس في (جامع السّنانية) الكبير، وتسابق النّاس إليه، وازدحموا عليه، ولم تمرّ على دعوته شهور حتّى تجاوبت أصداؤها في أقطار الشّام كلّها، وأحسّ بها القاصي والدّاني، واعترف بقوّتها العدوّ والصّديق.ونظر الشّيخ فوجد أنّ بلاده تحت حكم الفرنسيين الفجرة، وأنّ مناهج التّعليم بعيدة عن المنهج الإسلامي، فأنشأ "الجمعية الغرّاء" سنة 1343هـ/1924م وأتى بالطلاب من حوران والأردن وبعض مدن وقرى دمشق للتّعلم في مدارس الجمعيّة التي أنشأها له التّجار الّذين أحبّوه ووثقوا به، وكان من مزايا هذه المدارس أنها تُعلِّم علوم الدّين واللّغة والعلوم الأخرى الدّنيويّة، وأنها تُعلِّم الفقراء مجاناً، بل توفر لهم الطّعام والكساء والمبيت.وخرّجت تلك المدارس آلاف الطّلاب والطّالبات، وكان الشّيخ يرسل المئات من الطلاب إلى البلدات والقرى لتعليم النّاس أمور دينهم، خاصّة في رمضان.
ولم تكتف الجمعية بالتّعليم بل كانت مقرّاتها ملتقيات لرجال السّياسة ووجهاء دمشق وعلمائها، فكانت مركز إشعاع للخير يعمّ المجتمع كاملاً، وبهذا حصلت النّهضة العلميّة الشّاملة في بلاد الشّام على يد هذا الشّيخ المبارك، رحمه الله تعالى.
5 _ صفاته وأخلاقه:
كان الشّيخ علي الدّقر يمتاز بتكامل في شخصيّته، فقد امتاز بـ:
الإخلاص:
فقد كان إخلاصه وحسن صلته بالله تعالى الدّافع القويّ لأعماله الّذي يحسّ به من جالسه، ولنترك الشّيخ عليّ الطّنطاوي رحمه الله يتكلّم لنا عن درس الشّيخ علي الدّقر يقول: لم يكن في الدّرس عِلم غزير، ولكن كان فيه شيء لا يجده سامعه عند ذوي العِلم الغزير، فيه الموعظة التي تخرج من القلب لتقع في القلب، فتحرك فيه خامد الشعور، وتثير فيه كامن الإيمان، فيه يملأ بالدموع المآقي، ويُبكي من الخشوع العيون، فيه ما يقيم ويقعد، ويلين أفئدة كانت أشدَّ من الصّخر، ويستخلص من أيدي الشّيطان نفوساً كان قد تملّكها وتحكّم فيها الشّيطان. فيه ما يشعره حاضره أنه انتقل من هذه الدّنيا، إلى مجالس الجنان.
الورع:
كان للشيخ راتب من الأوقاف لكنّه لم يكن يأخذ منه شيئاً بل يصرفه في الفقراء والمساكين من طلّابه.
الكرم:
كان والداه من أهل الجود والكرم فورث عنهما هذا الخُلُق الكريم، وورث عنهما مزرعتين في المزة وداريّا، يؤمّهما الفقراء والمحتاجون، ليأخذ كلّ واحد منهم ما يحتاجه منهما، من دون استئذان، وعندما يمد الموائد، يفرح بازدحام المساكين عليها.
الشّعور بحال المسلمين:
وهذه الصّفة هي الّتي دفعته دفعاً لعمل شيء للمسلمين ينفعهم، ومن ثَمّ أنشأ "الجمعية الغراء" لتكوين العلماء العاملين الذين لا تسعفهم أحوالهم وأوضاعهم على طلب العلم، فخرج منها علماء كان لهم أثرهم في مدنهم وبلداتهم وقراهم.
شجاعته:
إضافة إلى جهاد الشّيخ العلمي في قضاء ساعات طويلة كلّ يوم في التّربية والتّعليم والوعظ فقد شارك في جهاد الفرنسيين بعد أن احتلّوا سورية عقب معركة ميسلون سنة 1339هـ/1920م.
الغنى:
كان غنياً من جهتين؛ غنياً بماله الّذي ورثه عن أبيه، وغنياً بقلبه، وهو الغنى.
ورب رجلٍ يملك من الأموال ما لا تأكله النّيران، وقلبه قلب فقير، وفقيرٍ لا يملك قوت يومه وبين جنبيه نفس غنية.
جماله:
فقد كان جميل الخُلق والخَلق وقد صفه الشيخ علي الطّنطاوي بقوله:"وكان الشّيخ علي الدّقر كالشّيخ بدر الدّين الحسني جميل الصّورة، ناصع البياض، أزرق العينين، حلو التّقاسيم، له لحية بيضاء كبيرة تزيده جمالاً"
6 _ من تلاميذه:
ومن العلماء والدّعاة الّذين تخرّجوا على يدي الشّيخ أو الجمعية الغراء على سبيل
الذّكر لا الحصر:
الشّيخ حسن حبنكة (العلامة المجاهد المربي).
الشّيخ عبد الوهّاب الحافظ (دبس وزيت) (مفتي الأحناف بدمشق).
الشّيخ نايف عباس (علامة التّاريخ والفرائض).
الشّيخ أحمد الدقر (مدير المعهد).
الشّيخ عبد الغني الدقر (الأديب، النحوي، الفقيه، المحدّث).
الشّيخ عبد الكريم الرفاعي (العالم الرّبّانيّ).
الشّيخ خالد الجباوي (سيبويه الصغير).
الشّيخ عبد الرؤوف أبو طوق (الخطيب المفوَّه).
الدّكتور الشّيخ محمّد أديب الصّالح.
الشّيخ عبد الرّحمن الزّعبي (الطّيبي) المفسّر والمحدّث.
وغيرهم من مئات العلماء الّذين تخرّجوا في معاهد ومدارس الجمعية الغراء، فأكثر من أن يُحْصَوا.
7 _ وفاته:
توفّي الشّيخ عليّ الدّقر رحمه الله في دمشق يوم الثّلاثاء في 25 صفر سنة 1362 هـ الموافق لـ 2 آذار سنة 1943 م وصلّي عليه في الجامع الأموي، ودفن في مقبرة الباب الصّغير.